لقد عظم الله تعالى حق الوالدين؛ ورفعت الشريعة من شأنهما؛ ولهما حق عظيم على الأبناء؛ حيث تعبا في رعايتهم والقيام على شئونهم؛ وعلى الأخص الوالدة التي حملت الابن تسعة أشهر؛ ثم دخلت في آلام لا يعلمها إلا الله عند وضعه؛ ونسيت تلك الآلام كلها عند أول ضمة له لإرضاعه؛ ولذلك عظمت الشريعة حقها على الابن أكثر من حق الأب، كما ورد في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ) جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ(.
فحق الوالدين شأنه عظيم؛ وقد قرن الله تبارك وتعالى حقه المعظم بحق الوالدين في أكثر من موضع في كتابه الكريم؛ من ذلك قول تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].
وبرّ الوالدين من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأعلاها منزلة؛ يدل لذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عَبْد اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ) سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي (.
بل إن الله تبارك وتعالى قد أمر بالإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف وإن كانا كافرين غير مسلمين؛ فكيف الأمر بالبر بهما لو كانا مسلمين؛ لا شك أنه أعظم شأنًا وأوجب؛ وقد قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴿ ﴾ [لقمان: 14، 15]. وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ:) قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ (.
وإن مما يدل على وجوب بر الوالدين ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: ) أقبلَ رَجُلٌ إِلَى نَبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الهِجْرَةِ وَالجِهَادِ أَبْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى. قَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ وَالِدَيْكَ أحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا. قَالَ: فَتَبْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا. وهذا لَفْظُ مسلِم. وفي رواية لَهُمَا: جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَأذَنَهُ في الجِهَادِ، فقَالَ: أحَيٌّ وَالِداكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفيهِمَا فَجَاهِدْ(.
وفي هذا الحديث عدة وقفات:
• أن منزلة الجهاد في الدين من المنازل العالية؛ وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون ذلك؛ فلذلك كانوا يتسابقون إليه؛ ويقدمون نفوسهم رخيصة في سبيل الله؛ لما في الجهاد في سبيل الله من الفضل العظيم والأجر الكبير، وقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تؤكد فضل الجهاد وتعلي مكانته ومنزلته؛ ويكفي في ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]. ولما في الصحيحين من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ) رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا (.
• أن هذا الفضل العظيم للجهاد أفضل منه برّ الوالدين، إلا في حالات خاصة ذكرها أهل العلم عند تعين الجهاد على شخص بعينه؛ وهذا الفضل العظيم قد يخفى على بعض أهل الفضل، كما حصل لهذا الصحابي.
وتقديم بر الوالدين على الجهاد غير المتعين هو قول جمهور العلماء، وقد استندوا على هذا الدليل الصحيح البين الواضح.
قال ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/ 313): وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ إِذْنُ الْأَبَوَيْنِ في الجهاد فِيهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ فَرْضَ عَيْنٍ مِثْلَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَالِكَ مَنْ يَقُومُ بِالْفَرْضِ إِلَّا بِقِيَامِ الْجَمِيعِ بِهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا ثَبَتَ: ) أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُرِيدُ الْجِهَادَ، قَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ (.
وقال الصنعاني في كتابه سبل السلام: وَذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجِهَادُ عَلَى الْوَلَدِ إذَا مَنَعَهُ الْأَبَوَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ؛ لِأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلَا.
• أن هذا الحديث الجليل يبين قلة فقه بعض شباب الإسلام الذين تأخذهم الغيرة لدين الله تعالى؛ فيقدمون على كبيرة من الكبائر وهي عقوقهم لوالديهم لغرض نيل الأجر في الجهاد؛ بينما كان من الواجب عليهم البدء بالواجبات قبل النوافل؛ فأحب الأعمال إلى الله تعالى ما افترضه على عباده؛ كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الحديث القدسي: ) .. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ.. (.
• أن بر الوالدين لا يقل رتبة في الفضل رتبة الجهاد في سبيل الله ومنزلته؛ وقد ينال المسلم ذلك الأجر إذا احتسب العبد ذلك العمل لله تعالى؛ فقد يعتصر العبد ألمًا لحب الجهاد في سبيل الله ونيل شرف الشهادة؛ ولا يمنعه من ذلك إلا الانقياد للأمر الشرعي الذي أمره ببره بوالديه