اليوم يواجه الجيش العراقي قوات البيشمركة في المناطق المتنازع عليها شمال البلاد بينما ينخرط السياسيون في بغداد في حرب كلامية محمومة. نقطة الخلاف تتمثل في قيادة قوات دجلة التي شكّلها رئيس الوزراء المالكي. ما يحدث حاليا هو نسخة طبق الأصل لعام 2008 عندما واجهت الحكومة المركزية الأطراف الكردية في محافظة ديالى. ويبدو أن الحدثين يهدفان إلى دعم موقف رئيس الوزراء قبل انتخابات مجالس المحافظات. في الظاهر تبدو هذه المواجهات وكأنها تتصاعد إلى حرب معلنة إلا أنها في الواقع تهديد سياسي اكثر من اي شيء آخر. وتضم محافظة ديالى عدة مناطق متنازع عليها بضمنها قضاء خانقين الواقع على الحدود مع إيران. ودخلت القوات الكردية إلى هذه المنطقة خلال اجتياح عام 2003 وبعد ذلك طلبت منهم الحكومة المركزية المساعدة في استتباب الأمن هناك. وفي 2008 اختار رئيس الوزراء تلك المنطقة لمواجهة الكرد فبدأ أولا بتشكيل مجالس الإسناد العشائرية في المحافظة التي كان من المفترض أن تساعد في تثبيت الأمن إلا أنها في الحقيقة وسيلة بيد رئيس الوزراء لتأسيس شبكات رعاية في أنحاء العراق. ومن جانبهم فسر السياسيون الكرد تلك المجالس في ديالى على أنها وسيلة لتقويض سيطرتهم على المناطق المتنازع عليها قبل انتخابات المحافظات لعام 2009 فمثلا قال قائممقام خانقين الكردي بان المجالس كانت بمثابة تهديد ووسيلة بيد المالكي لفرض سلطته على المنطقة. وفي نيسان تم إبلاغ لواء البيشمركة الرابع والثلاثين من قبل الفرقة الخامسة للجيش بإخلاء المنطقة لتتولى هي مسؤولية الأمن فيها، الا أن الكرد رفضوا الطلب حيث رأوا في ذلك خطوة استفزازية من قبل رئيس الوزراء. بعدها وفي تموز شرعت حكومة بغداد بعملية “بشائر الخير” في ديالى التي كان المراد منها التركيز على المتمردين. كجزء من العملية تتحرك الفرقة الأولى للجيش الى خانقين في بداية آب، فطالبت الفرقة لواء البيشمركة 34 بإخلاء المنطقة خلال 24 ساعة الا ان اللواء رفض الطلب ، فحاول الجنود ارغام العديد من الاحزاب السياسية الكردية والبيشمركة على الخروج من مكاتبهم ما ادى الى مواجهة حادة بين الطرفين حيث وقف الجيش العراقي الى جهة وهو يرفع العلم العراقي والبيشمركة على الجهة الاخرى رافعة علم اقليم كردستان. في الشهر التالي حاولت الشرطة العراقية اعتقال ضابط استخبارات كردي في القضاء مما ادى الى جدال واطلاق نار اودى بحياة احد رجال البيشمركة. في حينها كان التصعيد المتنامي للمالكي ضد الكرد في ديالى ينظر اليه على انه تهديد كبير للوضع الراهن في البلاد. كان للأحزاب الحاكمة الكردية والشيعية تحالفات طويلة الامد تعود إلى زمن صدام عندما كان الطرفان معارضين لدكتاتوريته. اليوم يبدو أن رئيس الوزراء يهدد تلك العلاقات من خلال الضغط على إقليم كردستان بشأن منطقة صغيرة. كثيرون يعتقدون ان هذا يمكن ان يتحول الى حرب معلنة بين الحكومتين قد تؤثر كثيرا على شمال البلاد. وتسربت أحداث خانقين الى محافظات أخرى في الاقليم. ففي نينوى يتهمون رئيس الوزراء باستبدال الوحدات الكردية بأخرى عربية، وبمحاولة نقل ضباط من الكرد الى خارج الفرقة العسكرية المتواجدة هناك مما نتج عنه ترك جنود أكراد مع آمر فوج الخدمة والمغادرة الى اربيل. كما رفض لواء عسكري كردي في ديالى استلام اوامر من بغداد. واخيرا، استبعد رئيس الوزراء اثنين من المسؤولين الكرد البارزين من فريق التفاوض حول اتفاقية وضع القوات مع الولايات المتحدة في آب. وكانت الاحزاب الكردية الحاكمة ترى في هذا الحراك خطوات استفزازية فسرها كثيرون على انها برنامج تعريب مصغر يديره المالكي يعيد للذاكرة حملة التعريب المؤسساتي التي شنها صدام من اجل اجتثاث المزارعين الكرد من شمال العراق واستبدالهم بعرب من اجزاء اخرى من البلاد. وأجج كل ذلك حربا كلامية بين المالكي وبارزاني، وبدأ المسؤولون الكرد بإطلاق لقب صدام الجديد على المالكي، وقال احد النواب في برلمان كردستان إن حزب البعث مازال على قيد الحياة في بغداد وانه يحاول إلغاء المادة 140 من الدستور التي تحدد مستقبل المناطق المتنازع عليها . واستمرت هذه الهجمات الكلامية قرابة السنة بعد حادث خانقين، وانتهت بتحديد كيفية لقاء بارزاني بالمالكي. منذ ذلك الوقت فقدت الثقة بالمالكي، حيث يسود الشعور بأن الحكومة المركزية –بعد انحسار التمرد والمليشيات– تعيد تاريخها الطويل بالالتفات الى الكرد، وظل هذا الشعور سائدا حتى الانتخابات البرلمانية لعام 2010 عندما حاول بارزاني وغيره من السياسيين –دون أن ينجحوا- في تحديد سلطة المالكي. وانتهى النزاع في ديالى بمساعدة الجيش الأميركي والمحادثات المباشرة بين أربيل وبغداد، وتوجه الرئيس بارزاني إلى بغداد حيث توصل الى صفقة تقضي بوضع خانقين تحت سيطرة الشرطة المحلية بدلا من الجيش العراقي أو البيشمركة. كما ساعد القائد العسكري الاميركي في العراق ريموند اوديرنو أيضاً في تأسيس نقاط تفتيش اميركية عراقية كردية مشتركة في المناطق المتنازع عليها من اجل أن يعمل الطرفان على حفظ الأمن فيها، وتفاوض مع لجنة وزارية لجمع ضباط الأمن من بغداد وأربيل. وفككت تلك الخطوات التوتر وعاد الطرفان الى شؤونهما الطبيعية. مازالت هناك مخاوف من خروج الموقف عن السيطرة، فمن الممكن ان يتخذ جندي او قائد ميداني في خانقين قرارا سيئا من شأنه ان يؤجج القتال بين الجيش والبيشمركة. وتحصل اليوم نفس المواجهة في المناطق المتنازع عليها. ففي تموز 2012 أعلنت وزارة الدفاع عن تشكيل قيادة قوات دجلة للسيطرة على قوات الجيش والشرطة في ديالى والتأميم وصلاح الدين. وفي ايلول شعرت الأطراف الكردية بالتوجس من هذه القيادة الجديدة وادعت بأنها غير قانونية واستفزازية وتشكل تهديدا للمادة 140 من الدستور. وفي تشرين الثاني وقع إطلاق نار بين الجيش العراقي والشرطة وبين وحدة من البيشمركة في صلاح الدين خلال محاولة اعتقال رجل أعمال كردي متهم بتهريب النفط. أدى الحادث الى مقتل مدني وجرح عشرة آخرين، ما دعا الحكومتين المركزية والإقليمية إلى تعبئة قواتهما مرة أخرى وإرسالها إلى المناطق المتنازع عليها. وفي نفس الشهر قال برهم صالح من الاتحاد الوطني الكردستاني بان المالكي يحاول إعادة الكرد الى زمن صدام. في كانون الأول وعلى صفحات جريدة الزمان ذكر الرئيس بارزاني بان حكومة الإقليم لن تسمح للمالكي بتحريك قواته في المناطق المتنازع عليها و دعاه بالدكتاتور . وفي اليوم التالي، اتهم وزير البيشمركة المالكي بتسليح العشائر العربية في نينوى وديالى و التأميم. مرة أخرى استدعي الجيش الأميركي للمساعدة في إجراء مفاوضات بين الطرفين. وتشبه الأحداث في عام 2012 إلى حد كبير أحداث عام 2008 ؛ فرئيس الوزراء يتخذ خطوة عسكرية استفزازية يراها الكرد تهديدا لمطالبهم في المناطق المتنازع عليها. وكما في 2008، فقد ارسل الكرد قواتهم لمواجهة قوات الحكومة المركزية، وكذلك شبّه الكرد المالكي بصدام، وأيضا طلبوا من الجيش الأميركي التوسط، كما ان سياسة الطرفين تشبه سياستهما في خانقين. المواجهتان الحالية والسابقة تأتيان قبل انتخابات المحافظات. من جانب المالكي فانه يلعب على وتر القومية العربية ويحاول تصوير نفسه كمتصد للنهج التوسعي للكرد، وقد نجح ذلك الى حد ما مع بعض السنة في شمال العراق الذين يشعرون بانهم مهددون من الكرد. فالكتلة العربية في التأميم (كركوك)، رحبت بقيادة قوات دجلة قائلة إنها تحد من سلطة البيشمركة، كما وقف نائب من الحركة الوطنية العراقية مع تشكيل القيادة. كان هذا نفس الموقف الذي اتخذه رئيس الوزراء عام 2008 حيث كان حينها يغير صورته من رئيس وزراء ضعيف استلم السلطة عام 2006، الى زعيم وطني قوي تغلب على جيش المهدي في البصرة وبغداد ومن ثم على الكرد. وكما هي الحال اليوم فقد وقفت بعض الأطراف السنية الى جانب المالكي بشأن حادث خانقين حيث طالب نائب عن جبهة الحوار بانسحاب البيشمركة من ديالى. ولم تكن الاستفادة من هذه المواجهات من جانب واحد فالرئيس بارزاني كسب نقاطا سياسية ايضا. ففي كل مرة يعزز صورته كحامٍ للمصالح الكردية. ويحشد اليوم وراءه الصحافة الكردية وأحزاب المعارضة والاتحاد الوطني الكردستاني، وهذا أمر مهم لأن المعارضة والاتحاد الوطني أخذا ينتقدان سياسته السابقة. في الواقع ورغم التقارير الإخبارية عن احتمال وقوع صراع مسلح، فيبدو أن الدوافع الحقيقية وراء الحادثين هي الكسب السياسي قبل الانتخابات القادمة. وان خانقين و قيادة قوات دجلة هما أمران متشابهان. ففي 2008 قرر رئيس الوزراء المالكي ان يتحدى الكرد عسكريا في المناطق المتنازع عليها مما قاد مباشرة الى استدعاء البيشمركة من قبل حكومة الإقليم، وتأزم الموقف حينها و ظل الطرفان يواجهان بعض و اثيرت مخاوف من اقتراب الطرفين من حافة الحرب. نفس سلسلة الاحداث تقع اليوم حول قيادة قوات دجلة. التركيز على جانب تهديد العنف ينسينا الجانب السياسي الأكثر أهمية. في كلتا الحالتين كان المالكي وبارزاني يحاولان توسيع دوائرهما الانتخابية من خلال تصديهما لبعض. الجانب العسكري هو الظاهر في الصورة أما وراء الكواليس فان القائدان يحاولان كسب الدعم في الانتخابات القادمة.