قال تعالى: (إنّ في خَلقِ السَّموَاتِ والأرضِ واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولِي الألباب * الذينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِياماً وقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِم ويَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلاً سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّار) (آل عمران/ 191-191).
ولنقف مع هذه الآيات البديعة وقفة تأمُّلٍ وتدبُّر: "إنّ هذا الكون بذاته كتاب مفتوح، يحمل بذاته دلائل الإيمان وآياته؛ ويشي وراءه عن يد تدبّره بحكمة؛ ويوحي بأنّ وراء هذه الحياة الدنيا آخرةً، وحساباً وجزاءً.. إنّما يدرك هذه الدلائل، ويقرأ هذه الآيات، ويرى هذه الحكمة، ويسمع هذه الإيحاءات (أُولُوا الأَلبابِ) (ص/ 29) من الناس، الذين لا يمرون بهذا الكتاب المفتوح، وبهذه الآيات الباهرة مغمضي الأعين غير واعين!
وأولو الألباب.. أولو الإدراك الصحيح.. يفتحون بصائرهم لإستقبال آيات الله الكون، ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات. ويتوجّهون إلى الله بقلوبهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إيّاه، وتردك غاية وجوده، وعلة نشأته، وقوام فطرته. بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود.
ومشهد السماوات والأرض، ومشهد اختلاف الليل والنهار، لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا؛ لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أوّل مرّة؛ لو استنقذنا حسّنا من همود الإلف، وخمود التكرار.. لارتعشت له رؤانا، ولاهتزّت له مشاعرنا، ولأحسسنا أنّ وراء ما فيه من تناسق لابدّ من يد تنسق؛ ووراء ما فيه من نظام لابدّ من حكيم يدبر؛ ووراء ما فيه من إحكام لابدّ من ناموس لا يتخلّف.. وأنّ هذا كله لا يمكن أن يكون خداعاً، ولا يمكن أن يكون جزافاً، ولا يمكن أن يكون باطلاً.
إنّ عرض هذا المشهد: مشهد التفكُّر والتدبُّر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، يناسبه دعاءٌ خاشعٌ مرتلٌ طويلُ النغمِ، عميق النبرات. فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته على الأعصاب والأسماع والخيال، فيؤثر في الوجدان، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف.. وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضاً أصيلاً من أغراض التعبير القرآني، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته، ثمّ طال بالرد عليه والإستجابة له كذلك: (فَاستَجابَ لَهُم رَبُّهُم أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أو أُنثَى بَعضُكُم مِن بَعضِ فالذينَ هاجَرُوا وأُخرِجُوا مِن دِيارِهِم وأُوذُوا في سَبِيلي وقاتَلُوا وقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئاتِهِم ولأُدخِلَنَّهُم جَنّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِها الأنهارُ ثَوَاباً مِن عِندِ اللهِ واللهُ عِندَهُ حُسنُ الثَّوابِ) (آل عمران/ 195).
وهي إستجابة مفصلة، وتعبير مطول، يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني؛ وفق مقتضى الحال، ومتطلبات الموقف، من الجانب النفسي والشعوري.
إنّ أولي الألباب هؤلاء، تفكّروا في خلق السماوات والأرض، وتدبّروا اختلاف الليل والنهار، وتلقوا من كتاب الكون المفتوح، واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه، فاتجهوا إلى ربّهم بذلك الدعاء الخاضع الواجف الطويل العميق.. ثمّ تلقّوا الإستجابة من ربّهم الكريم الرحيم، على دعائهم المخلص الودود. فماذا كانت الإستجابة؟
لقد كانت قبولاً للدعاء، وتوجيهاً إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن واحد: (فَاستَجَابَ لَهُم رَبُّهُم أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أو أُنثى بَعضُكُم مِن بَعضٍ) (آل عمران/ 195) ظلال القرآن".
- من دلائل العظمة:
الله.. لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، وإليه ترجعون.
الله.. عظيم في ذاته، عظيم في صفاته، عظيم في علمه، عظيم في قدرته (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وهوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى/ 11)، (لَهُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وهوَ العليُّ العَظِيم) (الشورى/ 4).
- عظمة السماوات والأرض:
الله.. يطوي السماوات يوم القيامة ثمّ يأخذهن بيده، ثمّ يقول: "أنا الملك، أين الجبّارون؟ أين المتكبِّرون؟"، ثمّ يطوي الله الأرضين، ثمّ يأخذهنّ، ثمّ يقول: "أنا الملك، أين الجبّارون؟ أين المتكبِّرون؟"، هذه السماوات وهذه الأرضون على الرغم من عظمتها وعجيب خلقها، يطويها الرحمن بيده.
وفي الحديث: "ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وأرض خمسمائة عام، ونضد كل سماء وأرض – يعني غلظهما – مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عامة، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء".
وفي الحديث الآخر: "ما موضع كرسيه من العرش إلا مثل حلقة في أرض فلاة".
وقال (ص): "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عزّوجل من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة عام – أو قال: خمسين عام – ".
وليس في هذا غرابة أو عجب، وما ذلك على الله بعزيز، وقد آمن السلف (رضوان الله عليهم) بكل ذلك إيماناً جازماً لم يخامرهم شك، أو يداخلهم ريب، فجاء العلم الحديث فأثبت تلك الأعاجيب، ولازالت الدراسات قائمة والبحوث جادة، وكل يوم يأتي العلم بخبر أعجب، ونبأ أعظم، وإليك شيئاً مما أثبتته الدراسات الحديثة:
- عظمة الشمس والقمر:
بُعد الأرض عن الشمس يساوي 6,149 مليون كيلومتر تقريباً، والشمس والقمر ما هما إلا جزء من المجموعة الشمسية، والتي تتألف من الشمس وتسعة كواكب أخرى، هي: عطارد، الأرض، المريخ، الزهرة، المشتري، زحل، أورانوس، بلوتو ونبتون. وكل هذه المجموعة وما تضمّه من نجوم وكواكب وأقمار ما هي إلا جزء صغير من المجرَّة (المسماة: درب التبانة)، وهناك أكثر من عشرة آلاف مجرة في هذا الكون العظيم.
هذه الشمس التي نراها ضئيلة وصغيرة، إنّها تكبر الأرض بمئات المرّات، إذ يمكنك أن تحشو الشمس بمليون وثلاثمائة ألف كرة أرضية!!
والشمس هي أهم شيء بالنسبة لحياتنا من الناحية الفلكية، فهي التي تمدنا بالضوء والحرارة، وهي التي بتبخيرها لمياه الأرض تسبِّب سقوط الأمطار، وهي التي بتسخينها لليابسة والبحار بدرجات مختلفة تسبب هبوب الرياح، وهي التي تمد النبات بالغذاء، وهي التي تمدنا بمصادر القوة، لأنّ الخشب والفحم والبترول ومساقط المياه كلها تعتمد على الشمس بقدرة الله تعالى.
أمّا القمر، فهو أقرب إلينا من الشمس ومن النجوم، وبُعده عنّا لا يقل عن ربع مليون ميل، والقمر إذا قورن بالأرض يعتبر صغيراً فهي أكبر منه بخمسين مرّة.
يبعد القمر عنّا مسافة مائتين وأربعين ألفاً من الأميال، ويذكرنا المد الذي يحدث مرّتين تذكيراً لطيفاً بوجود القمر. والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدماً في بعض الأماكن، بل إنّ قشرة الأرض تنحني مرّتين نحو الخارج مسافة عدّة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شيء منتظماً لدرجة أنّنا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدّة أقدام، وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية.
والمريخ له قمر، قمر صغير لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنّا خمسين ألف ميل مثلاً، بدلاً من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنّا فعلاً، فإنّ المد كله يبلغ من القوة بحيث أنّ جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرّتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها. وفي هذه الحالة، ربّما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة، وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الإضطراب، وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم.
- عظمة النجوم:
والنجوم كذلك غاية في العجب والغرابة، وعالم عظيم مهيب غريب، وهي وإن ظننا أنّها قريبة منّا، إلا أنّها أبعد من الشمس بما لا يقارن. وقد واصل الفلكيون دراسة النجوم، وعرفوا ألوان لمعان عدد كبير منها، والتي تصل أبعادها إلى مائة سنة ضوئية، بل وأبعد من ذلك، وبعض النجوم الزرقاء يزيد ضوؤها على ضوء الشمس 000,10 ضعفاً. ومقابل كل نجوم من هذه النجوم، يوجد 000,100 نجم مماثل للشمس في لمعانها، وبعض النجوم يزيد في ضخامته عن الشمس بمائة ضعف.
والنجوم ملايين مملينة، حيث لا يستطيع أحد مهما استخدم من المناظير أن يحيط بها كلّها.
يقول أحد الفلكيين: إنّ عدد النجوم يزيد على عدد حبات الرمال التي على شواطئ جميع بحار الدنيا.
أبعَدَ الدهر في الفضاء مكرَّه/ عالقاً في مكرِّه بالمجرَّة
إن أُم النجوم بنت زمان/ لم تزل حادثاته مستمرة
في فضاءٍ لو سافر البرق فيه/ ألفَ قرن لما أتى مُستقرَّه
ولو الشمس ضوعفت ألف ضعف/ لم تكن في أثيره غير ذرَّه
سعة تحسب المجرّة فيها/ حلقة ألقيت بصحراء قفرَه
يقف الفكر دونها مُكوَندّا/ مُقشَعِرّاً فشمسنا منه قطره
ولو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي عليه بمقدار بضع أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة.
ولو كان الهواء أقل ارتفاعاً مما هو عليه، فإنّ بعض الشهب التي تحترق بالملايين كل يوم في الهواء الخارجي كانت تضرب في جميع أجزاء الكرة الأرضية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للإحتراق.
ولو كان قمرنا يبعد عنّا (000,20) ميل بدلاً من بُعده الحالي، لكان المد يبلغ من القوة حيث إنّ جميع الأراضي تغمر مرّتين في اليوم بماء متدفق يزيح الجبال نفسها.
ولو كان ليلنا أطول مما هو عليه الآن عشر مرّات، لأحرقت شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار، وفي اليل يتجمّد كل نبت في الأرض.
ولو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة أو كان أكثر من الهواء بدلاً من 21 في المائة، فإنّ جميع المواد القابلة للإحتراق في العالم تصبح عرضة للإشتعال، لدرجة أن أوّل شرارة في البرق تصيب شجرة لابدّ أن تلتهب الغابة كلها.
ولو كانت نسبة الأوكسجين 10 في المائة، لتعذر أن يكون التمدن الإنساني على ما هو عليه اليوم.
ولولا المطر، لكانت الأرض صحراء لا تقوم حياة عليها، فلولا الرياح والبحار والمحيطات، لما كانت حياة، ولولا أنّ الماء يتبخّر بشكل يخالف تبخر الملح، لما كانت حياة، ولولا أنّ البخار أخف من الهواء، لما كانت حياة.
ولو كانت مياه المحيطات حلوة، لتعفنت وتعذرت بعد ذلك الحياة على الأرض، حيث إنّ الملح هو الذي يمنع حصول التعفُّن والفساد، ولولا أنّ الكلور يتحد مع الصوديوم لما كان ملح، وبالتالي ما كانت حياة.
ولو كان محور الأرض معتدلاً بدل هذا الميل الحالي الذي مقداره 23 درجة مع سكون الأرض، لتجمّعت قطرات المياه المبتخرة من المحيطات والبحار ونزلت في مكانين محدودين في الشمال والجنوب، وكونت قارات الجمد، ولظل الصيف دائماً والشتاء إلى الأبد، ولهلك الناس والحياة والأحياء.
ولو لم تكن قوانين الجاذبية موجودة، فمن أين تلتقي الذرات وجزيئات الذرات؟ ومن أين تكون الشمس شمساً، والأرض أرضاً؟ ولو كانت فمن أين تبقى في مكانها الحالي؟ ولو بقيت فكيف تكون الحياة؟ وكيف يسير الإنسان؟
وبوجود قانون الجاذبية لو كانت الأرض صغيرة كالقمر، أو حتى لو كان قطرها ربع قطرها الحالي، لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها، ولصارت درجة الحرارة بالغة حدّ الموت.
ولو كانت الإلكترونات ملتصقة بالبروتونات داخل الذرة، والذرات ملتصقة ببعضها حيث تنعدم الفراغات، لكانت الكرة الأرضية بحجم البيضة، فأين يمكن أن يكون الإنسان وغيره؟ وعندما تكون المسألة كذلك يتغير كل ما نشاهده الآن على فرض وجود جرم بحجم الأرض بدون فراغات بين جزيئات ذراته.
ولو كانت العناصر لا تتحد مع بعضها لما أمكن وجود تراب ولا ماء ولا شجر ولا حيوان ولا نبات.
ولولا الجبال لتناثرت الأرض، ولما كان لها مثل هذه القشرة الصالحة للحياة.
ولولا أنّ في الأرض أرزاقها، لما استطاعت الحياة أن تبقى.